أخر الاخبار

“مجلس العرش”.. انزلاق رمزي في خطاب حراك جيل Z



“مجلس العرش”.. انزلاق رمزي في خطاب حراك جيل Z




بقلم: جمال السباعي

في خضم الحراك الاجتماعي الذي قاده جيل Z المغربي خلال الأيام الأخيرة، برزت ظاهرة لغوية لافتة في الخطاب الموجه إلى المؤسسة الملكية. فبدل الصيغة المألوفة التي تقول: “نلتمس من جلالة الملك”، اختار نشطاء الحراك عبارة جديدة ومثيرة للجدل: “وإيمانا بأن مجلس العرش سيظل وسيطا”. مصطلح واحد كان كافيًا لإثارة نقاش واسع حول اللغة، التاريخ، والسياسة.

تاريخيًا، “مجلس العرش” ليس مؤسسة قائمة في النظام السياسي المغربي المعاصر، بل هو مصطلح استعماري ارتبط بسياق بالغ الحساسية: مرحلة نفي السلطان محمد الخامس سنة 1953، حين حاولت سلطات الحماية الفرنسية إنشاء Conseil du Trône، أي “مجلس للعرش”، لتدبير شؤون البلاد في غياب الملك الشرعي.
كان الهدف يومها واضحًا: إضفاء شرعية شكلية على حكم مفروض، وفصل رمز الأمة عن عرشه الحقيقي.
ولذلك، ظلّ هذا المصطلح محفورًا في الذاكرة الوطنية باعتباره رمزًا لمحاولة الاستعمار المسّ بشرعية الملك واستبدالها بوصاية مؤقتة.


حين يعيد شباب الحراك استعمال هذا التعبير في وثيقة موجهة إلى القصر، فإن النية قد لا تكون سياسية بمعناها الانقلابي أو الرمزي، بل تعبيرًا عن رغبة في تدخل المؤسسة الملكية عبر هيئة أو مجلس يتكلف بالملف.
لكن اللغة لا تُقاس بالنوايا فقط، بل بما تحمله من ذاكرة ودلالات.
وفي الحالة المغربية، يُنظر إلى “العرش” كرمز موحِّد لا يُفصل عن شخص الملك. ومن ثمّ، فاستعمال عبارة “مجلس العرش” يوحي – ولو ضمنيًا – بوجود كيان آخر يدير العرش أو يتحدث باسمه، وهو ما قد يُفهم كمسٍّ برمزية الملك نفسه، أو كإيحاء بأن الملك غائب أو محاط بجهاز يقرر نيابة عنه.


من الناحية السياسية والتواصلية، قد يبدو هذا الاختيار اللغوي غامضًا ومثيرًا للريبة.
فالقصر الملكي اعتاد أن تأتي الرسائل الشعبية بصيغة الولاء والالتماس المباشر: “نرفع تظلمنا إلى جلالة الملك”، “نناشد الملك باعتباره أب الأمة”.
هذه الصياغات تنسجم مع الثقافة السياسية المغربية التي تجعل من شخص الملك الملاذ الأخير والضامن للعدالة الاجتماعية.
أما القول بـ“مجلس العرش”، فهو ينزع عن الرسالة دفئها الوطني ويحوّلها إلى خطاب مؤسساتي بارد، قد يُفهم في الديوان الملكي كنوع من “الانزياح الرمزي” الذي يثير الحذر أكثر مما يدعو إلى الاستماع.


من المرجح أن شباب الحراك لم يقصدوا الإساءة، بل أرادوا تجديد اللغة السياسية وتوسيع معنى “التدخل الملكي” ليشمل محيطه ومؤسساته.
لكن الخطأ هنا لغوي رمزي، لا سياسي بالضرورة.
فالذاكرة الجماعية لا تزال تحمل حساسية من أي مصطلح استُعمل في فترات المساس بشرعية العرش، وهو ما يجعل استعماله في لحظة توتر اجتماعي اختيارًا غير موفق، حتى وإن كان بحسن نية. فالتجارب السابقة في المغرب أثبتت أن اللغة قد تفتح أو تغلق الأبواب.


خطابٌ صادق النية لكنه سيئ الصياغة يمكن أن يُفهم على نحو خاطئ ويضيع مضمونه في تفاصيل شكلية.
ولهذا، من الحكمة – في مثل هذه اللحظات الدقيقة – أن يُوجَّه الخطاب إلى الملك محمد السادس بصفته الشخصية والرمزية، لا إلى كيان افتراضي لا وجود قانوني له. فالإصلاح في المغرب، تاريخيًا، لم يكن يومًا ضد الملك، بل انطلق دائمًا من باب الملكية نفسها.

مصطلح “مجلس العرش” في وثيقة جيل Z ليس مجرد زلة لغوية، بل مرآة لتيه رمزي بين الرغبة في التغيير والبحث عن المخاطَب المناسب. والدرس الأهم هنا أن اللغة السياسية ليست بريئة: كلمة واحدة يمكن أن تعيدنا إلى زمن الاستعمار، أو تفتح نافذة جديدة نحو الإصلاح. وفي بلدٍ بعمق المغرب، الرمز لا يقل أهمية عن المطلب.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-