
إنه قلب المدينة العتيقة النابض بالحيوية، محور عدوة القرويين، محج يعبره الوافدون من البعيد أو المقيمون أو العابرون، الباحثون عن سر المدينة في ثنايا متاهتها الممتدة والمتداخلة مثل تركيبة الدماغ. الطريق الوحيد المباشر بين معلمتي فاس الروحية والعلمية جامع القرويين وضريح مولاي إدريس. سوق له معالم عمرانية تاريخية، فجانب منه كان يعرض الضوء المتمثل في شموع الاستعمال اليومي والآخر للغذاء النوعي. هنا تلتقي متعة التذوق بمتعة أنوار الإمتاع.
لم يختر الأقدمون هذا المكان سوقا للشموع اعتباطا، بل ليكون قريبا من المحسنين لتقديمها هبة لمسجد القرويين الذي كان يحتاج إلى أعداد هائلة منها مساهمة في إنارة جوانبه الشاسعة أو لضريح مولاي إدريس، نورا واستجلابا لكرامات الولي قطب فاس والمغرب. فالشمع أنواع وأشكال وله مصادر منها الحيواني الذي هو شمع النحل وهو أهمها، وشمع الصوف غير المعالج، وغيره، وهناك الشمع النباتي وأهمه الشمع الكرنوبي الذي تنتجه شجرة بلح الاستوائية وأنواع أخرى من النباتات. واستعمالات الشمع كثيرة في الصناعات القديمة والحديثة مثل تلميع طبقة السيارات، وفي الصناعات العريقة في فاس، استعمال الخام منه لتقوية خيوط خياطة “البلاغي” و”الخرازة” عامة، حيث كان هذا الشمع الخام المستورد من الخارج على شكل أقراص كبيرة تشبه أقراص الجبن الهولندي إلا أنها داكنة اللون، يباع بالوزن في بداية مدخل الشماعين الجنوبي من زقاق السبطريين Zapatero، وهو اسم إسباني دخل مع الأندلسيين إلى فاس ويعني صانع الأحذية.
للشموع ألوان
لم تكن وظيفة الشمع الإضاءة فقط، بل كانت قبل دخول الكهرباء رمز النور والبركة والسعادة، فقد كان السوق يعرض وحتى وقت ليس بالبعيد شموع الزينة للحفلات، كالختان والأعراس وختم القرآن، وإهدائها للأضرحة وشعلها في عتبات مدافن الأولياء، وأهمية وظيفة الشموع منتشرة في كل العالم، وهي مازالت تمثل أهمية كبيرة في الكنائس وفي المعابد.
لقد عرفت السلطنة العثمانية حفلات كانت توقد فيها الشموع بكثرة وتقام لها طقوس خاصة بمناسبة المولد النبوي، وهو ما سينعكس في مدينة سلا في موكب الشموع أو كما يسميه أهل سلا “دور الشمع”؛ هذا الاحتفال بالمولد النبي الذي يقال إن عمره خمسة قرون، عندما أقيم أول احتفال بالمولد النبوي في عصر السلطان أحمد المنصور الذهبي (1549 ـ 1603) سنة 986هـ 1578م. وقد اقترن موكب الشموع أو دار الشمع بولي وقطب مدينة سلا عبد الله بن أحمد بن حسون، الذي عمل على الحفاظ على الاحتفال بهذه الذكرى وكان يرأسها بنفسه، وهو من مواليد فاس سنة 1515 وتوفي بسلا سنة بعد وفاة المنصور الذهبي سنة 1604. وكان يحضر احتفالاته بالمولد النبوي العلماء وشيوخ الطرق الصوفية من أنحاء المغرب.
الجزء الآخر من السوق كان ولا يزال مخصصا لبيع الفواكه المجففة، التي تنشط تجارتها خاصة في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، ويحملها معهم زوار المدينة تبركا بفاكهة جمعت سر ونفحات المعلمتين معا القرويين ومولاي ادريس.
باب الشهيد
يجد الواقف في سوق الشماعين نفسه في نقطة تتفرع عنها خمسة مداخل يفضي الشمالي منها إلى الباب الرئيسي لجامع القرويين وهو أعتاها. الباب الذي يحمل أسماء عدة أشهرها باب الشماعين، نسبة إلى السوق الذي يقابله مباشرة. فباب الشماعين الذي يزيد طوله عن 5 أمتار وعرضه 4 أمتار، ورد ذكره في كتب تاريخ المغرب الأدبي والسياسي في كثير من المراحل لارتباطه بكثير من الأحداث الهامة. يعود بنائه إلى عهد علي بن يوسف بن تاشفين، فابن أبي الزرع الفاسي يقول إنه بني سنة 528هـ 1133م، ويرجع أبو الحسن علي الجزنائي بناءه إلى 1123م وابن القاضي في كتاب “جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام مدينة فاس”، ذكر بناء الباب سنة 510هـ 1117م.
عرف الباب أيضا بباب الشهيد، وذلك بسبب الاعتداء الشنيع الذي تعرض له في هذا الباب العلامة الكبير عبد الواحد بن أحمد الونشريسي (1475 ـ 1548) صاحب كتاب “النور المقتبس من قواعد مذهب مالك بن أنس” ومؤلفات أخرى في عهد الدولة السعدية. حين بدأ السعديون يسيطرون على المغرب وزحزحة الوطاسيين عن الحكم، حاول محمد الشيخ (حكم من 1540ـ 1557) الحصول على الاعتراف بدولته الفتية من أهل فاس، الذين أبوا في بداية الأمر، لأنهم كانوا يرون أن ملكهم الشرعي هو أبو العباس الوطاسي، وكان متزعم معارضة أهل فاس العلامة عبد الواحد الونشريسي، الذي كان قاضي فاس لمدة سبع سنوات ثم مفتيها. لقد عمل محمد الشيخ على إقناعه بالتخلي عن مناصرة أبي العباس الوطاسي، لكن الونشريسي لم يكن يرى سببا لخلع بيعة الملك الوطاسي من ذمته. وحيث لم يستطع محمد الشيخ إقناع الفقيه، فقد “أطلق عليه قراصنته” كما يصفهم الدكتور عبد الهادي التازي. حيث اعتاد العلامة الونشريسي تدريس البخاري بين المغرب والعشاء.
ومع أن ذوي قرابته حذروه من انتقام محمد الشيخ، إلا أنه لم يتراجع عن متابعة تشهيره بعدم شرعية محمد الشيخ السعدي. فقد هاجمه هؤلاء المرتزقة وأنزلوه من كرسي التدريس وحاولوا إخراجه من باب الشماعين، فتمسك بأحد البابين، فضربه أحدهم في يده فكسرها وأجهز عليه الباقون فقتلوه، لذلك يسمى باب الشهيد.
الباب والأسطورة
وسمي أيضا “باب الفخارين القدامى”، ربما كان هناك سوق للفخارين قبل أن يصبح سوق الشماعين. وسماه كتاب “الاستبصار في عجائب الأمصار” لمؤلف مغربي مجهول الاسم “باب النجارين”. فقد تحدثت الكثير من الكتب عن رواية السلحفاء الضخمة “التي عثر عليها أثناء حفر الأساس عن يسار الداخل لهذا الباب حيث الدكانة المرصودة، فوجدوا هناك عينا تتدفق من ماء معين في تربيع من ثمانية أشبار على مثلها، فأقبي عنها وملأت السلحفاء المساحة مترين على مثلها، قالوا فقد استشار القاضي بن داود علماء المدينة لذلك العهد، فأجمعوا على تركها حيث هي وإعادة الإقباء عليها” (جامع القرويين، عبد الهادي التازي).
وقد بلغ الإعتقاد بالعوام في هذه “الدكانة” درجة عالية، فكانوا ينصحون من يشكو من ألم الظهر التمطط بظهره فوق هذه “الدكانة”، ومنذ أن دخلت الكهرباء إلى جامع القرويين، أصبحت “الدكانة” (رتاحة) للكهرباء التي تنير الجامع.
فليس كل ما يرد في كتب التاريخ له مصداقية، وهذا ما يؤكده بن خلدون حين سخر من تراهات بعض كتب التاريخ التي تروي كل شيء. ولم تسلم فتوى الفقهاء الذين أفتوا بالابقاء على السلحفاة في مكانها والبناء فوقها من انتقاد الجزنائي الذي قال “لا بد من إخراج السلحفاة، إن كانت السلحفاء حية فلا يجوز البناء على الحي، وإن كانت ميتة فلا يجوز بناء المسجد على ميتة”.
برج النار
في الزاوية اليمنى من هذا المدخل الشمالي لسوق الشماعين، هناك بناية تعود إلى نهاية العصر المريني (إلى سنة 840هـ 1437م حسب تقدير التازي)، استنادا إلى ما وصفتها بها حوالة وقفية من سنة 893هـ 1488م “البرج حديث البناء”. وهي منارة مربعة الهندسة وليس لها قبة وتفصلها عن جامع القرويين زنقة العدول. غير أن هناك من المؤرخين من ينسب إنشاءه إلى عصر الموحدين. ويستند في هذا إلى أن برج القرويين أنشئ تعويضا عن برج الكوكب لرصد أوقات الصلوات وكان خارج باب مدينة فاس الشمالي باب عجيسة قبالة سيدي علي مزالي. بل من المؤرخين من قال هو من إنشاء السلطان ابي عنان المريني حين سن العَلم والفانوس.
فالبرج هو الآخر حمل أسماء عدة: برج الشماعين، برج القرويين، برج النفارين وبرج النار. يصف هذا البرج روجي لطرنو (فاس ما قبل الحماية) بقوله: “ويرتفع بجانبها (أي صومعة القرويين) برج مربع وهو برج المنجمين، أو برج النار حيث تُشاهد منه مراحل القمر ويُتعرف من فوقه على الحرائق بالمدينة”.
فوظيفة هذا البرج الأساسية تكون في شهر رمضان، حيث يعتليه النفارون لينبهوا منه سكان المدينة إلى مراحل الليل، وبالأخص وقت السحور. لقد تم تجهيز هذا البرج من أجل راحة الموقتين والنفارين والمؤذنين بعدد من الغرف والصالات وبمصريتين، بل حتى بحمام فسيح يمتد فوق دكاكين الشماعين والسبطرين خاص بالمؤذنين والموقت، ويذكر الدكتور عبد الهادي التازي أنه سمع من أحد المشرفين على البرج: “أنه كان للمصريتين على علوها بأر تتزودان منه بالماء بالجرارة”.
لقد بني هذا البرج بناء على نقاش فقهي قديم حول استعمال البوق والنفير، حيث عرفته الأندلس ودخل المغرب مع حملات المهاجرين الأندلسيين، ولاحقا القيروان وتونس للأغراض الدينية في شهر رمضان، ثم بعد نقاش طويل تم الإجماع على استعماله في المغرب فخصص له برج خاص خارج الجامع.
“مجانة” الشماعين
بين برج النار ومدخل سوق الشماعين الثالث الغربي المفضي إلى القيسارية، هناك تجويف أطلق عليه قديما “درب المجانة” أي الساعة. فالعديد من حوليات الأوقاف القديمة التي تعود إلى فترة أواخر الدولة المرينية وبداية الدولة الوطاسية، تتحدث عن ساعة مائية كانت تعلو الجدار فوق مرتفع الدكاكين الحالية، وكانت على شاكلة “مجانة” التلمساني التي أمر بإنشائها السلطان المريني أبو عنان (1329 ـ 1358) قبالة المدرسة البوعنانية بالطالعة الكبيرة، والتي اكتملت سنة قبل وفاة السلطان (1357). غير أن “مجانة” الشماعين كانت أصغر من أختها البوعنانية بكثير، وهي مدفونة في جدار برج القرويين.
فالظروف الصعبة التي عرفتها فاس في فترة انتقال الحكم من الوطاسيين إلى السعديين، ساهمت في تعطيل بل حتى إتلاف العديد من منجزات الدولة السابقة. وهو ما أدى إلى ضياع وخراب العديد من المظاهر الحضارية التي حققتها الدولة المرينية، بل حتى طمس معالمها. فأحد الخبراء في تاريخ فاس البرفسور BEL يتحدث في “تسجيلات فاس” عن ساعة مائية مدفونة في الجدار.
بضعة أمتار على الأقدام تفصل جدار “المجانة” عن معلمة تاريخية أخرى من معالم سوق الشماعين، فندقها الذي يحمل هو الآخر اسم السوق “فندق الشماعين”. فقد تعرض هذا الفندق وعدد من الدكاكين من حوله لحريق مهول في الثمانينات من القرن الماضي، ما أبقاه مغلقا إلى أن تم ترميمه وفتحه وربطه بفندق السبطريين ضمن الترميمات الأثرية التي عرفتها فاس منذ سنة 2013.
لقد انصب الاعتقاد عند كثيرين أن مدرسة اللبادين، التي كثيرا ما يتم الحديث عنها ضمن المدارس العلمية العتيقة في فاس، كان مكانها هو فندق الشماعين الحالي، حيث يقول روجي لوطرنو: “مدرسة اللبادين التي تشير النصوص إلى وجودها بمقربة جامع القرويين، ومن المحتمل أن تكون مرينية لكن يجهل تاريخ تشييدها واسم مؤسسها”. غير أن آخرين يحيلون مكانها إلى فندق القطانين. وفي حاشية كتاب لوطرنو من الفقرة سالفة الذكر يقول: “كانت هذه المدرسة (أي اللبادين) تحتل حسب رواية احتفظ بها بفاس موقع عمارة بنك المغرب (أي في القطانين) ودمرت بأمر من السلطان العلوي مولاي رشيد، لأن الطلبة دنسوها بالحياة الخليعة التي قضوها فيها. وقد استفدت هذا الخبر من صديقي السيد عبد الوهاب لحلو”.
وكلام لوطرنو هنا واضح، أنه لا يستند إلى مصادر تاريخية وإنما من الرواية الشفوية، التي اختلط عليها الأمر فاقتبست حادثة الهدم من مدرسة الواد في عدوة الأندلس التي هدمها السلطان الحسن الأول للسبب نفسه الذي ذكره عبد الوهاب لحلو لروجي لطورنو. بينما آخرون ينسبون مدرسة اللبادين إلى فندق راس الشراطين. غير أن العالم والمؤرخ والباحث عبد السلام بن سودة حسم هذا الخلاف في العدد 44 من مجلة دعوة الحق بقوله: “لا وجود لمدرسة اللبادين المرينية بفاس وإنما المعروف فندق اللبادين، وكان قديما يعرف بفندق رأس الشراطين، وكان من أحباس جامع القرويين ــ والمدارس التي أسسها المرينيون معروفة مذكورة بأسمائها ومحلاتها وعناوينها، ولم يذكر أحد من المؤرخين أن من تأسيسها مدرسة برأس الشراطين ــ وأيضا لو كانت مدرسة ما وقع تعويضها في فجر الحماية لصالح خاص لا لصالح عام، وفي حوالة الخزانة العامة عدد 45 ص 44 به فندق اللبادين عوضها”.
سوق الأدب
أحد الدكاكين التي على يسار فندق الشماعين لبيع مختلف الأثواب، كانت مثابة يتردد عليه شعراء أدب الملحون مثل عبد المالك اليوبي، الحاج محمد بنونة وعبد الحق بنجلون وكان صاحب المحل الحاج عبد القادر برادة نفسه من شعراء الملحون، كما كان يتردد على هذا الدكان عدد من منشدي هذا الفن مثل عبد الكريم كنون، محمد السوسي، المسودي، الحاج علال بن دريس، ومن خارج فاس بنسعيد من الرباط ــ سلا ومن مكناس الحسين التولالي، وغير هؤلاء. وأيضا عشاق الملحون والمهتمين به. كان الدكان يعرف جلسات فكرية، ونقاشات وجدالات حول معاني وقصائد الملحون، قد تصل أحيانا إلى طلب الفتوى من ذوي الشأن الديني والأدبي، كما حصل بين الشاعر الحاج عبد القادر برادة والشاعر عبد المالك اليوبي في مسألة هل رآى رسول الله صل الله عليه وسلم لله في الإسراء والمعراج أم لا؟
تفصل دكان الملحون للحاج عبد القادر برادة أمتار قليلة عن مثلث سوق الشماعين الذي تحفه دكاكين سلع مختلفة من كل جانب. فجانبه الغربي يضم “سوق المضايمة” حيث كانت تصنع “المضام”، أي النُطُق التي تتمنطق بها النساء فوق القفطان والمنصورية أو القفطان وحده، وإلى فترة نهاية الستينات كان الرجال التقليديين يلبسون القفاطين والمنصوريات ويتمنطقون “بالمضمة”، وهذا الطراز من اللباس ما زلنا نلاقيه حتى اليوم عند خدم في القصر الملكي. فهذا السوق الصغير “المضايمية” الذي كان ينتج هذه الأحزمة بأنواعها المختلفة من الخيوط الذهبية اللون “الصقلي” أو من الخيوط الحريرية، أو خيوط الصابرة (الصبار) وغيرها، يمثل المدخل الرابع لسوق الشماعين المفضي رأسا إلى الحرم الإدريسي وإلى أحد أبواب المجمع التجاري القيسارية. بينما الجانب الآخر من المثلث يشكل المدخل الشرقي الخامس لسوق الشماعين.
لقد شكل سوق الشماعين عبر العصور محجة مرغوبا فيها، بل شبه إجبارية لزوار فاس، سواء القادمين من شتى المدن والقرى المغربية، أو من خارج المغرب، لما يمثله من تلك البهجة والمتعة العينية وفرجة المشاهدة، وذلك التلاقي بين العديد من ألوان الزينة وأشكال حياة الفاسيين الباذخة، التي يعكسها هذا السوق بكل تباينها أو انسجامها حيث يتلاقى فيه ما هو يومي وما هو احتفالي وما هو ديني وما هو دنيوي وما هو متعة للبطن وللروح.