
في سنة عيشه التاسعة والثمانين، رحل عن دنيا الناس الأكاديمي كينيث لويس براون، المتخصص في الأنثروبولوجيا أو علم الإناسة، الذي ناقش أواخرَ ستينيات القرن العشرين دكتوراه حول الثابت والمتحول في تقاليد مدينة سلا، وكتب موجز تاريخ هذه المدينة عبر القرون، وأدار مجلة “المتوسطيّات” التي اهتمت أعداد منها، بلغات من بينها العربية، بأدب وتاريخ وثقافة المغرب.
باحثٌ فذّ
في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، قال الأكاديمي محمد الناصري، عضو أكاديمية المملكة المغربية، إن “كينيث براون قد أسدى خدمات كبيرة لمدينة سلا؛ لكن عطاءه لم يؤخذ بعين الاعتبار للأسف، وهو أول من درس التاريخ الاجتماعي لمدينة سلا.. وبالتالي أعطى حقيقة إضاءة تاريخية هائلة”.
وتابع قيدوم الجغرافيّين المغاربة، الذي تقدّم الرعيل الأول لأكاديميّي الجامعة المغربية الحديثة: “جاء كينيث براون إلى مدينة سلا، لأنه قرأ عملي حولها (أطروحة الدكتوراه المناقشة سنة 1961)، وربطتُ اتصاله المباشر بالسلاويين، وعرّفته على من يمكنهم مساعدته. وفي الحقيقة كان رجلا فذّا. وتمكن، في المدة التي قطن في سلا خلال سنتين، من السيطرة على اللغة الدارجة. كما أنه بعد ذلك “نزل إلى سوس، وتعلّم السوسية”.
و”من جملة فضائل” الفقيد، وفق الشاهد، “الإنصات للنساء، والحكايات اللائي يحكينها له، وكانت له تسجيلات أيضا لأصواتهن التي اختفت تماما؛ لأن اللكنة الخاصة بالسلاويات التقليديات لم تبق، وكانت خاصة بنساء سلا.. وللأسف، كل هذا ضاع؛ لأنه لم يكن عندنا اختصاصيون في الإثنولوجيا، الذين يمكنهم الاهتمام بهذه المسائل. ومن الصعب كذلك الولوج إلى النساء للحديث معهن؛ فقد كان الأمر متعذرا، ولا يقترب منهن إلا الأقارب. ولا يمكن أن يكون في كل عائلة إثنولوجي يلتقط هذا ويدرسه.. وبالتالي، هذه مسائل ضاعت للأبد”.

وتابع الناصري: “كانت لكينيث براون قدرة غريبة على الحديث مع الناس”، واستحضر سفرا معه إلى نواحي مدينة تيزنيت “في ظل حرارة مفرطة؛ فأخذنا سيّدٌ إلى دار في النواحي، وأغلقنا حولنا البيت نظرا لدرجة الحرارة.. ومر اليوم كله دون أن نشعر بإعياء، لأنه كانت لكينيث قدرة دفع الناس للتكلّم، وأن يبوحوا له بمسائل وذكريات الصبا والعمل وما جرى له مع ‘فلانة وفرتلّان’ (تلك وذاكَ)، والعلاقة مع القبيلة التي ينتمون إليها”.
وحول مجلة “المتوسطيات”، ذكر محمد الناصري أنها “كانت تجربة رائدة؛ لكن للأسف لم يكن له الإمكانات، أو المؤسسة التي تكون أداة تعين على الاستمرار.. ومن بين ما ضاع بسبب هذا مقارنة حدّثني حولها بين طنجة ووهران والجزائر والإسكندرية، كان سيصدرها في إطار المجلة”.
أهمية معرفيّة بالِغة
المؤرخ والأكاديمي محمد حبيدة، الذي ترجم دراسات لكينيث براون إلى العربية، قال بدوره لهسبريس: “في الأصل، اشتغل براون على المدينة الإسلامية، كباحث للأنثروبولوجيا في أمريكا. وحسب ما يحكي في سيرته الذاتية، أنه في لقاء مع جاك بيرك، في محاضرات له بالولايات، اقترح عليه دراسة المغرب، واستقرّا على مدينة سلا”.
وأضاف المؤرخ: “عند قدومه إلى سلا، أرشده جاك بيرك للحديث مع محمد الناصري، قيدوم الجغرافيين المغاربة؛ لأنه اشتغل على مدينة سلا جغرافيا، في أطروحته بفرنسا (…) وفتح له باب اللقاء بأناس من بينهم عائلة الصبيحي، التي تمتلك ‘الخزانة الصبيحية’، وعن طريق العائلة تيسرت له أمور العلاقة بعائلات سلا، والاطلاع على الأرشيف، وعدد من الأمور حول أهل سلا”.

وتابع حبيدة: “في سياق استئناسه بسلا، كان عليه الاشتغال على تاريخ المدينة، وقام بمجهود لتعلّم العربية، وقرأ النصوص بها… وقد ترجمت هذا العمل مع أناس لعلو في مطلع الألفية الثالثة، وهو بحث مطوّل ومفصّل يهتم بسلا من القرون الوسطى إلى القرن التاسع عشر، نشرَه بدورية “هيسبريس”.
وسجّل المصرّح “الأهمية البالغة لعمل براون حول أهل سلا، الذي يتناول فيه التحولات التي وقعت في سلا. ومن خلالها، يتخذها نموذجا اجتماعيا مصغّرا يفهم من خلاله المغرب، والتحولات الأساسية التي وقعت في القرن التاسع عشر، الذي أخرج المغرب من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة (…) وقد كانت له علاقة بعدد من الباحثين؛ منهم عبد الرحمن الخصاصي لأن له اهتماما بالشعر الأمازيغي في الجنوب كذلك، وكان له انفتاح على الثقافة العربية في البلاد العربية بصفة عامة والثقافة الأمازيغية، وهو مجهود يظهر في محاولاته لتعلم العربية والأمازيغية. وقد عاش مدة في المغرب، وأقام في سلا بين أهل المدينة التي ساعدته على فهمها وأهلها وثقافتها، وتعلم اللغة”، وعاد إلى المغرب مرارا، ومن بين محطّات ذلك تأطير للطلبة بدعوة من محمد حبيدة؛ شهد فيه على “أخلاق العلم، والانفتاح على الشباب”.
وذكر المتحدث أن الراحل كينيث براون “يحكي أنه عندما انتقل من أمريكا إلى إنجلترا ودرّس في جامعة مانشستر، قد تأثّر بكتابات كليفورد هيغز. ومن المعلوم أنه يوجد في الأنثروبولوجيا اتجاه يعطي أهمية للنموذج الأدبي في الكتابة، وهو اتجاه سار فيه براون، ومن هناك انتقل إلى فرنسا بباريس ثم مارسيليا، وانفتح بمجلة ‘المتوسطيّات’ على الأدب والشعر”.
ثم استرسل محمد حبيدة قائلا: “البعد الأدبي في الكتابة مسألة مهمة أولاها كينيث براون أهمية كبيرة، وفي تجربته كأستاذ للأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في جامعة مانشستر، قال إنه مع أساتذة وباحثين في التخصّص نفسه قد حسسوا الطلبة بأهمية الأدب، ودفعوا الطلبة إلى قراءة الروايات وغيرها من الأعمال الأدبية؛ لأنها تمكن من فهم الحالات البشرية أفضل من الأعمال الأكاديمية، وهذه زاوية أعطاها أهمية كبيرة”.