فن الزليج الفاسي: جوهرة الزخرفة الفاسية وتراثها العريق
في قلب مدينة فاس، عاصمة الروح والتراث المغربي، ينبض فنٌ عريق يروي قصة حضارة ضاربة في القدم، إنه فن الزليج الفاسي. ليس مجرد زخرفة جدارية، بل هو مرآة لروح فنية متجذرة، وحرفة دقيقة تحمل أسرارًا تتوارثها الأجيال كما تُورَّث الجواهر الثمينة.
الزليج الفاسي: سِحر هندسي عمره قرون
الزليج المغربي، وبالأخص الفاسي، ليس وليد الصدفة، بل ثمرة قرون من التبادل الثقافي بين المغرب والأندلس، حيث تبلور وتطور حتى بلغ ذروة ازدهاره في عهد الدولة المرينية. تلك المدارس والمساجد التي بُنيت في فاس خلال هذا العصر، لا تزال شاهدة على براعة صنّاع الزليج، الذين أبدعوا في إدخال الألوان وتطوير الأشكال الهندسية المتشابكة لتُنتج لوحات فنية آسرة.
وقد تميز الزليج المغربي عن غيره من فنون الزخرفة الأخرى كالفُسيفساء الرومانية والقاشاني الفارسي، فبينما اعتمدت تلك الفنون على تصوير الطبيعة والإنسان، فإن الزليج المغربي ارتقى بالتجريد الهندسي إلى فن راقٍ يعكس روحًا إسلامية تنأى عن التجسيد، وتحاكي الكمال من خلال التكرار والدقة والانسجام.
حرفة تتحدى الزمن وتقهر الانقراض
الصانع المغربي، وبالذات الفاسي، يُعد اليوم الحارس الأمين لهذا الفن العريق. ورغم تطور الزمن وتغير وسائل الإنتاج، فإن صناعة الزليج ظلت وفية لأصولها التقليدية، حيث تبدأ من الطين وتنتهي بلوحات فنية تزين جدران القصور والمساجد والرياضات.
تمر هذه الحرفة بمراحل دقيقة تبدأ بتحضير الطين، ثم تشكيله وتجفيفه، فطلائه وحرقه في أفران خاصة، ثم تقطيعه إلى قطع صغيرة (الفرم)، وأخيرًا تجميعها وفق تصميم هندسي دقيق فيما يسمى "التفراش". وقد يحتاج متر مربع واحد من الزليج إلى ما يفوق 6000 قطعة، مما يعكس حجم الدقة والجهد المبذول.
من فاس إلى العالم: الزليج سفير الثقافة المغربية
لم يعد الزليج المغربي حبيس جدران المدن القديمة، بل غدا سفيرًا متجولًا يحمل عبق التاريخ المغربي إلى أقصى بقاع الأرض. مؤسسات ثقافية عالمية، وأفراد وشركات كبرى، تستعين بالصناع المغاربة لترميم معالم تاريخية أو تزيين منشآت بطراز مغربي أصيل.
غير أن هذا الانتشار الواسع جلب معه إشكالية "الاستيلاء الثقافي"، حيث سُجلت محاولات نسب هذا الفن إلى ثقافات أخرى، كما حدث في قضية التصاميم المستوحاة من الزليج المغربي في قمصان إحدى الشركات الرياضية. وهو ما أثار ردود فعل رسمية غاضبة، أعادت تسليط الضوء على ضرورة حماية هذا التراث من السطو والتشويه.
فن الزليج: من الجمالية إلى الهوية
الزليج ليس فقط فنا جميلا يسر الناظر، بل هو عنصر أساسي في الهوية المغربية، يعكس عبقرية حرفييها، وتاريخًا عريقًا متجذرًا في العمارة والذوق الرفيع. لقد صمد أمام تقلبات الزمن، وتحديات العولمة، بل وتفوق على كثير من فنون الزخرفة العالمية، حتى أصبح "الوحيد تقريبًا"، كما يقول المختصون، الذي حافظ على تقنياته الأصلية منذ قرون.
الزليج... تراث يستحق الحماية والتقدير
إن فن الزليج الفاسي ليس مجرد زخرفة، بل هو ذاكرة وطنية، وكنز حضاري يجب صونه. هو تعبير أصيل عن الجمال والهوية، وواجبنا جميعًا أن نحتفي به، ونحميه من كل محاولات الطمس أو التزوير. ففي كل قطعة زليج، حكاية حرفة، ونبض حضارة، وصوت مغربي أصيل لا يجب أن يُسكت.