معالم فاس القديمة: رحلة لا تُنسى عبر تاريخ عريق
تشتهر المغرب بمدنها العريقة، لكن تظل فاس جوهرة تلمع في تاج التراث المغربي. تأسست هذه المدينة في القرن الثاني الهجري (172هـ / 789م) على يد إدريس الأول، الذي لجأ إليها فارّاً من الاضطهاد العباسي. تقع فاس في شمال المغرب، على بعد 198 كم من الرباط و291 كم من الدار البيضاء، محاطة بمدن تاريخية مثل مكناس والقنيطرة.
تنقسم فاس إلى ثلاثة أجزاء تعكس عصوراً مختلفة:
- فاس البالي (المدينة القديمة)، القلب النابض بالتاريخ.
- فاس الجديد، الذي بُني في القرن الثالث عشر الميلادي.
- المدينة الجديدة، التي نشأت خلال الاستعمار الفرنسي.
فاس عبر العصور: منارة العلم والعمران
عندما ضرب إدريس الأول فأسَه على ضفة نهر فاس، لم يكن يعلم أنه يؤسس واحدة من أعظم حواضر العالم الإسلامي. نمت المدينة مع قدور العائلات العربية والأندلسية، ثم توحدت على يد المرابطين تحت قيادة يوسف بن تاشفين.
أصبحت فاس عاصمةً للمغرب مرات عديدة، وبلغت أوج ازدهارها في عهد المرينيين، الذين جعلوها مركزاً للعلم والفنون. ورغم فقدانها مكانتها كعاصمة بعد 1956، ظلت تحتفظ برونقها كمدينةٍ تحكي تاريخاً عريقاً.
رحلة في أزقة فاس البالي: متاهة من الجمال
صنَّفت اليونسكو فاس البالي كموقع تراث عالمي، فهي أكبر مدينة عتيقة خالية من السيارات في العالم، حيث تتشابك الأزقة الضيقة كخيوط سجادة مغربية، وتتناثر فيها التحف المعمارية التي تعود إلى قرون خلت.
أبرز المعالم التاريخية في فاس:
1. جامع القرويين: أقدم جامعة في العالم
بني عام 859م على يد فاطمة الفهرية، وهو ليس مجرد مسجد، بل أقدم جامعة في العالم لا تزال تعمل حتى اليوم. درس فيه علماء كبار مثل ابن خلدون وابن رشد. يتميز بمنبره المرابطي العتيق، وصومعته التي تعود إلى القرن العاشر، وزخارفه الجبسية التي تأسر الأنظار.
2. مدرسة بو عنانية: تحفة العهد المريني
أنشأها السلطان أبو عنان المريني سنة 1350م، وتشتهر بساعتها المائية الغامضة التي ما زال العلماء يحاولون فكّ لغز عملها. جدرانها المزينة بالزليج والجبس تُجسِّد روعة الفن المغربي الأصيل.
3. متحف دار البطحاء: قصر تحوّل إلى كنز ثقافي
بُني هذا القصر في القرن التاسع عشر كمقرٍ للسلطان مولاي عبد العزيز، ثم أصبح متحفاً يعرض تحفاً فنيةً نادرة، من مخطوطات إلى ساعات شمسية، في مزيجٍ ساحر بين الطراز المغربي والإسباني.
4. مدرسة العطارين: لؤلؤة العمارة الإسلامية
بناها السلطان أبو سعيد المريني، وتُدهش الزائر بفسيفسائها الخزفية وساحتها ذات النافورة، التي كانت تستقبل طلاب العلم من كل حدبٍ وصوب.
5. باب أبي الجنود: البوابة العظيمة إلى الماضي
هو المدخل المهيب لـفاس البالي، بني في القرن التاسع عشر، ويجسد قوة المدينة وهيبتها.
6. برج الشمال: حارس المدينة القديم
شُيّد عام 1582م كبرج مراقبة، ويضم اليوم متحفاً للأسلحة التقليدية، ليحكي قصصاً عن عصور الحرب والسلم في فاس.
فاس اليوم: تراث حي ينبض بالحياة
رغم مرور القرون، لا تزال فاس تحتفظ بروحها كمدينةٍ تتنفس التاريخ. في أزقتها، تسمع همسات الماضي بين صياح الباعة في سوق العطارين، وتشم رائحة الجلود في حي الدباغين، حيث تعمل المصابغ التقليدية كما كانت منذ مئات السنين.
مدينة توقف عندها الزمن
فاس ليست مجرد مدينة، بل متحف مفتوح، كل حجر فيها يحمل حكاية. هي مكانٌ حيث يتشابك الماضي بالحاضر، وتُكتب أجمل القصص بين جدران مدارسها العتيقة وقصورها الفخمة. زيارتها ليست رحلة عابرة، بل غوص في أعماق التاريخ المغربي الذي ما زال حياً ينبض بالجمال.