قبل أن نعرف أهداف و ظروف اتهامات سعداني للجنرال توفيق ، أضع بين يدي القارئ الكريم مجموعة من المعلومات والملاحظات والاستنتاجات ، وله كامل الحرية في تفسيرها أو الربط بينها :
- على غير العادة ، وزارة الدفاع الوطني لم تصدر بيانا تندد فيه بتصريحات عمار سعداني رغم أنها في الأشهر الأخيرة درجت على إصدار بيانات التكذيب والنفي و التوضيح وحتى التحذير ، فقد ردت على من دعاها للانقلاب على الرئيس بوتفليقة وتفعيل المادة 88 من الدستور عندما كان في مستشفى فال دوغراس (دعوة محمد مشاطي عضو مجموعة 22 الجيش للتحرك ضد بوتفليقة ) وردت على ما سمته بالتفسيرات المغلوطة لتغييرات الرئيس التي مست جهاز الدي أر أس ، وردت مرة ثالثة على الصحفي سعد بوعقبة عندما تهكم على تغطية وكالة الأنباء الجزائرية لخبر لقاء وزير الدفاع ( بوتفليقة ) مع نائبه (قايد صالح ) .. ؟!
لاحظ أن ما قاله سعداني في حق الجنرال توفيق لا يقارن في خطورته ووضوحه بما سبق ، فقد تعدى حدود التفسيرات والاستنتاجات إلى الاتهامات الصريحة والعلنية ، والاتهامات طالت أحد القيادات الكبرى في المؤسسة العسكرية ، والاتهامات لم تصدر من أي شخص ، بل من رجل يوصف بأنه زعيم الحزب الحاكم في البلاد ..وبالرغم من ذلك كله ..لم نر بيانا من المؤسسة العسكرية.. فكيف ترد المؤسسة العسكرية على مجرد قراءات واستنتاجات الصحافة ، ولا ترد على اتهامات سعداني في حق قائد المخابرات الفريق محمد مدين..؟؟ فالاتهامات التي كانت بمنتهى الوضوح والجدية صدرت من شخصية رسمية في الدولة في حق شخصية قيادية في المؤسسة العسكرية .. !!
- كلام سعداني جاء بعد التغييرات التي أجراها بوتفليقة على جهاز المخابرات ، والتي فسرها سعداني في وقت سابق على أنها تندرج في سياق تمدين نظام الحكم ... !!فمامعنى كلام سعداني والحال أن العقداء والجنرالات الذين عُينوا بدلا للقيادات السابقة كانوا باختيار بوتفليقة ، و رجال توفيق صاروا خارج نطاق الخدمة ...فما فائدة كلام سعداني إذن ..؟؟ولماذا افتعل هذه الضجة وما هو هدفها ..؟؟ خاصة أن جميع رجال المخابرات الحاليين من اختيار بوتفليقة ..؟؟
- نذكر سعداني ومن انخدع بكلام سعداني ، أن الشخص الذي اتهمه بما اتهمه ، يملك بوتفليقة أن يعزله بمجرد مرسوم ، وأن الرئيس الذي يصر على الإبقاء على مدير مخابرات فاشل هو رئيس فاشل ..
- إذا كان الجنرال توفيق هو من يعيّن ويعزل وهو من يدبر الانقلابات والانشقاقات داخل الأحزاب -على حد قول سعداني - فان هذا الكلام يلزم سعداني من باب أولى ، إذن ، فالجنرال توفيق هو من عيّن سعداني رئيسا للمجلس الشعبي الوطني سنة 2002 ، وهو من انقلب على بلخادم ، وهو من عينه على رأس الآفلان ، وقبل ذلك كله هو من عيّن بوتفليقة ( الذي يدافع عنه سعداني دفاعا مستميتا ) وسمح له بالاستمرار في الحكم طيلة هذه السنوات ...؟ !!
- حزب سعداني يملك الأغلبية في البرلمان، وكان بإمكانه استدعاء وزير الدفاع أو نائبه إلى البرلمان لمسائلتهم في أمر خروج قائد المخابرات عن النص ، فلما التهريج بهذا الشكل ...؟؟
- سعداني قال غير مرة أن عودة السلم و الأمن كان بفضل الرئيس بوتفليقة ، ولكنه في نفس الوقت ينسب الإخفاقات الأمنية- وبعضها قد وقعت في عهد بوتفليقة على غرار حادثة تيقنتورين - للفريق مدين .. فكيف له أن ينسب الانجازات للرئيس والإخفاقات للتوفيق ، ولما يتحامل على قائد المخابرات بهذا الشكل ..؟؟
- يتهم سعداني الجنرال توفيق بأنه يدعم خصومه في الآفلان لأنه ضد العهدة الرابعة ، والسؤال : وهل خصوم سعداني في الآفلان ضد العهدة الرابعة..؟؟ ألم يصرح بلعياط أن بوتفليقة هو مرشح الحزب إذا ترشح لعهدة رابعة .. ؟! وهل يصدق عاقل في هذا البلد أن يقف رجل مثل بلعياط في وجه بوتفليقة إذا ترشح لعهدة رابعة .. ؟ولما يحرص سعداني على جعل الجنرال توفيق في مواجهة مع بوتفليقة ..؟؟
- أكبر دليل على أن الجنرال توفيق خارج دائرة النفوذ ، هو تهجم سعداني عليه بتلك الطريقة ، ولو كان توفيق بمثل تلك القوة والجبروت التي حاول أن يصورها لنا سعداني ، لما تجرأ عليه بتلك الطريقة ، ولو كان سعداني يعلم أن الجنرال توفيق في أوج عطائه وقادرا على إيذائه .. لما نام قرير العين ليلة واحدة ..ولما جلس مطمئنا على كرسي الزعامة في الآفلان ليوم واحد ..!
من خلال ما تقدم نجد أن استهداف الجنرال توفيق لا يخرج عن أحد أمرين أو كلاهما :
- ما قاله سعداني يندرج في سياق "الشو الإعلامي "بمعنى : أن الأمر مصطنع ومدروس ومتفق عليه لتمرير شيء ما ، وتم استدعاء الجنرال توفيق للقيام بالمهمة ..
- أو أن أشخاصا من محيط الرئيس أرادوا إبعاد الرجل الأول في المخابرات ، تمهيدا لتعيين رجل آخر ينتظر المنصب منذ مدة ..
الرواية الأولى : على بلحاج والجنرال توفيق لتمرير المرشح الملهم
كلام سعداني يعتبره الإعلاميون موجها للاستهلاك ، وعند السياسيين يدرج في سياق "صناعة الهواجس " و "خلق الفزاعات " و "استدعاء البعبع " لتحقيق أهداف معينة ، فلا مانع من إحياء الأسطورة إذا اقتضت الحاجة ، فكل شيء ممكن ، كلام سعداني لا قيمة له من الناحية المنطقية ، فقليل من التروي والتأني تجد أن سعداني لم يكن هو أصلا مقتنعا بما يقول ..!
الرئاسيات المقبلة تحتاج إلى تشويق وسوسبانس ، فلم يعد يكفيها خروج علي بن فليس من التابوت واستدعاء علي بلحاج ليقف على أعتاب وزارة الداخلية ليطالب باستمارات الترشح لإقناع الناس بأن الرئاسيات غير محسومة لصالح الرئيس أو مرشحه ، ركزت وسائل الإعلام كثيرا على مشهد علي بلحاج و هو يحاول جاهدا سحب استمارات الترشح ، والمفارقة أن قوات الأمن لم تعتقله على غير العادة و الصحافة سجلت تصريحاته خلافا للعادة أيضا ، بل إن فضائية مطبلة عدت ذلك في سياق الانفتاح الذي تعرفه الرئاسيات المقبلة ... !!
المهم أن علي بلحاج أدى دوره على أكمل وجه ،و بدون أن يشعر ، وبعد أن حُرم من سحب استمارات الترشح وأخذ صورا وهو يصر على سحبها ، سلم المشعل لعمار سعداني ليمارس طقوس "الاستهبال السياسي " ليتهم موظفا في الدولة بأنه يقف في وجه رئيس الدولة ، ويحمّله مسؤولية عدم ترشحه لعهدة جديدة .. !! نجح سعداني في لفت الانتباه ، وتغيير القناعات ، وقلب المعطيات ، وبعدما كنا نتحدث عن الرئيس أو مرشحه ، دخل المعادلة رقم جديد يمكنه خلط الأوراق وقلب الطاولة ، ولم نعد نتحدث بعدها عن رئاسيات محسومة للرئيس أو مرشحه ، تصريحات سعداني أعادت تدشين البازار وفتح المزاد ...هذا الانطباع مقصود لذاته وهو سر قنابل سعداني ..
عليك ملاحظة نوعية النقاش الدائر بعد تصريحات سعداني ، خاصة وسط المعارضة ، التي صارت تحلل وتراقب ، وتدعو إلى التعقل وتغليب الحكمة ومصلحة الوطن ..!! و تخلت عن مواقعها في جبهة رفض مرشح النظام ، و صار بعضها يدعو إلى تدخل القضاء ، وإحالة سعداني للمحاكمة .. !! بل إن منها من دعا صراحة أصحاب القرار إلى التوافق وتجنيب البلد دخول المتاهات،ومعنى التوافق اختيار الرئيس القادم فيما بينهم وكفى المؤمنين شر القتال ، الحقيقة لقد نجح سعداني في صناعة نوعا من "الفوبيا السياسية " إلى درجة أن على بلحاج المعروف براديكاليته في المعارضة صار يدعو إلى التعقل وعدم التهور.. !! وطالب بتأجيل الانتخابات .. !! نقل سعداني الطبقة السياسية برمتها من فاعلة إلى متفرجة ، ومن معارضة إلى محلّلة ومراقبة ، وأرسل الجميع إلى المدرجات ليشاهد "المقابلة المخدومة " بينه وبين الجنرال توفيق ، فالكل ينتظر ما ستسفر عنه هذه المواجهة المحتدمة ونسى الجميع دوره الحقيقي ..
نجح سعداني نسبيا في صرف الأنظار عن حقيقة الصراع الموجود بين النظام الشعب ، وتحويل العركة كلها بين أجنحة النظام ، ودعوة الجميع للفرجة والترقب ، الكل انطلت عليه اللعبة، وجنح إلى تبني مقاربة وجود صراع في أعلى هرم السلطة ، وهو في حقيقة الأمر صراع متوهم مختلق فبركه نظام أحادي شمولي يبحث عن مبررات استمراره .. !؟؟
،
الرواية الثانية : الجنرال توفيق على طريقة أويحي و بلخادم
لم يعد خافيا أن الجنرال توفيق هو أحد الشخصيات المقربة من بوتفليقة ، فقد وقف إلى جانبه في انتخابات 2004 التي تخندق فيها قائد الأركان مع المنافس الأول لبوتفليقة علي بن فليس ، ويقال أيضا أن الفريق مدين قدم استقالته للرئيس أكثر من مرة ( بعد 2009) ولكن بوتفليقة رفضها .. بعد عودة الرئيس من رحلته العلاجية الأخيرة ، هندس شقيقه السعيد لتنحية الجنرال توفيق من منصبه ، فالسعيد بوتفليقة كان يرى أن الفريق مدين كبر في السن وأنهكه المرض ولم يعد قادرا على تسيير الجهاز الحساس، واتضح أن الأمور تجاوزته ، خاصة وأن بعض الخلايا المنفلتة داخل المخابرات تسببت في فوضى النشر التي سادت قبل مرض الرئيس ، وجعلته هو وكثير من الشخصيات المقربة من محيط الرئيس في قلب فضائح فساد مدوية ، الحقيقية أن رحيل الجنرال توفيق لم يكن مستبعدا مع سابق رغبة الفريق مدين ذاته في الرحيل ، واقترح السعيد اسما بعينه خلفا لقائد المخابرات ، وقد علم بطلب الفريق أكثر من مرة إحالته على التقاعد ، ولكن المشكلة أن بوتفليقة رفض اقتراح شقيقه السعيد جملة وتفصيلا ، واقتنع كحل وسط بخارطة التغييرات البديلة والتي تم بموجبها إحالة بعض العقداء والجنرالات إلى التقاعد ...
الواقع أن السعيد بوتفليقة كان يراهن على إحراج الجنرال توفيق من خلال إحالة بعض العقداء والجنرالات على التقاعد وهم من تلاميذه النجباء ومن رجاله المفضلين ، و بالتالي دفعه إلى الاستقالة بعدما فشل في إقناع الرئيس بوتفليقة بتنحيته ، ويظهر أن خطة السعيد لم تنجح في ظل تمسك الشقيق الأكبر بقائد المخابرات ، وفي ظل القراءة الايجابية للفريق مدين لتغييرات الرئيس و التي لم يفهم على أنها موجهة ضده كما حاولت أن تفسرها بعض التحليلات ،وكما تمنى السعيد أن يفهمها الفريق ، الجنرال توفيق لم يفهمها بالشكل الذي أراده السعيد لأنه يدرك أن بوتفليقة لو أراد رحيله لأعفاه من منصبه بشكل مباشر وبلا لف ولا دوران ، ولأحاله على التقاعد بناء على رغبته منذ مدة ، ولما تمسك به كل هذه السنوات ، رغم إلحاحه في الرحيل أكثر من مرة ، لذا لم يساور الجنرال توفيق أدنى شك في ثقة بوتفليقة فيه ..
لجأ السعيد إلى تبنى نفس الإستراتجية التي استخدمها في الإطاحة ببلخادم و أويحي في وقت سابق ، ولو أن الأدوات التي استخدمها ليست نفسها ، استنجد باالكميكاز عمار سعداني ليرسل له رسائل خاصة لعل وعسى يستشعر الجنرال مدين الحرج ، و يقدم استقالته، كانت تصريحات سعداني في بداية الأمر التي استهدف فيها جهاز الدي أر أس تتسم بالضبابية وعدم الوضوح والمباشرة ، تحدث فقط عن مدنية الدولة وإبعاد العسكر عن السياسة ، ولم تكن بنفس وضوح ومباشرة تصريحاته الأخيرة ، ولكن يبدو أنها لم تحقق الهدف منها ، مما اضطر السعيد لإخراج جميع أوراقه ، وتكليف سعداني للقيام بمهمة انتحارية ، واستهداف الجنرال توفيق بشكل مباشر وبصفة علنية لدفعه للاستقالة وإجبار الرئيس على قبولها .. ؟!!
الحقيقية أن الرواية الثانية الأقرب إلى التصديق ، ولها ما يسندها في الميدان، ولعلها التفسير المنطقي الوحيد لتهجم محيط الرئيس على الجنرال توفيق ، في مقابل عدم تنحية الجنرال توفيق من طرف بوتفليقة وتمسكه به ، بمعنى : أن هناك خلافات شخصية داخل محيط الرئيس بشأن التعاطي مع قائد المخابرات وواضح أن الرئيس هو من يقف عائقا أمام إخراج توفيق من مبنى الدياراس ، وهو ما عبرت عنه سابقا بصراع داخل الأوليغارشية الحاكمة ، وليس صراع أجنحة كما يصوره البعض ، وقد قلت في وقت سابق أن جميع المؤسسات في الدولة ليست على قلب رجل واحد ، وأن هناك صراع أشخاص وليس صراع مؤسسات، بمعنى: بعض الشخصيات داخل مؤسسة الرئاسة ضد بعض الشخصيات داخل جهاز المخابرات أو العكس ..
كما أن نفس أسلوب الإطاحة ببلخادم و أويحي متبع بحذافيره في خطة الإطاحة بالفريق مدين ،والكثير من المتابعين حينها وقعوا في المغالطة، وتوهموا أن الإطاحة ببلخادم و أويحي عبارة عن استهداف للرئيس وحاشيته ومقربيه ، في حين ثبت بالدليل القاطع أن الضربات التي تلقاها الرجلان مصدرها محيط الرئيس ذاته ، بدليل أن الرئيس استبعد الرجلين من شغل أي منصب في الدولة ، الواقع أن استراتجية الإطاحة بالشخصيات المقربة لا يأخذ في الحسبان العلاقات الوطيدة بين الأطراف ، ولا يعترف فقط بالولاءات والانتماءات ، بل إن الأمر مرتبط بالحسابات والأمزجة المتقلبة والمصالح المتجددة ، والتي تجعل من التضحية بالأشخاص المقربين شيئا محتوما إذا جد الجديد و اختلف الرهان ، ويبدو أن "سي علي " ذهب ضحية هذه الاستراتجية ...
مفتاح سحنون