
سيكولوجية الإنسان المغربي: الإنسان في مجتمع معقّد
هذا المقال مبني على محاضرة ألقاها الباحث بول باسكون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تحت إشراف “جمعية الأبحاث الثقافية”.
العيش في مجتمع معقد
المجتمع المغربي ليس بسيطًا أو موحّدًا، بل هو مجتمع "مركب"، يجمع في داخله أنماطًا متعددة من الحياة والقيم والعلاقات. هذا التعقيد يؤثر مباشرة على نفسية الإنسان المغربي، ويجعله يعيش يوميًا نوعًا من "التوفيق" بين عوالم مختلفة ومتناقضة.
فالإنسان المغربي العادي يتأقلم باستمرار مع بيئة مليئة بالتناقضات. يمكن أن يبدأ يومه بطقوس تقليدية ودينية داخل البيت، ويرتدي خنجرًا كرمز للنخوة والحرية، ثم يركب دراجة نارية، ويتجه لمقابلة موظف حكومي للحصول على قرض، يربطه بالقانون والإدارة والتخطيط الاحتمالي. وفي نفس الوقت، لا يتردد في التوسل والدعاء، وربما تقديم قربان لطرد "الشر".
هذا الشخص لا يعيش تناقضًا داخليًا، بل بالعكس، هو يتفاعل بانسجام مع واقع متعدد، ويتكيّف مع كل وضع حسب ما تفرضه الظروف.
الأدوار المتعددة والمعايير المتداخلة
في مثال واقعي لفلاح مغربي، نراه يخرج بلباس تقليدي وخنجر، يركب دراجته النارية، ويحمل دجاجة كهدية لموظف. هذه الهدية قد تُفهم كرشوة أو كأجر أو كعطية، لكنها بالنسبة للفلاح ليست شيئًا من هذا أو ذاك بشكل واضح، بل مجرد سلوك متوقع داخل نسق اجتماعي معقّد.
حين يصل الفلاح إلى الإدارة، يصطدم بتعقيد البيروقراطية، فيلجأ إلى أحد أقاربه الذي يعمل ميكانيكيًا، لكنه يكتشف أن هذا القريب ليس له نفوذ، فينتقل إلى البحث عن معارف أخرى. ورغم كل ذلك، يستمر في محاولة فهم وتجاوز النظام الإداري.
هنا يتداخل التقليدي بالحديث، والقبلي بالقانوني، والديني بالاحتمالي (قوانين الإحصاء)، والهوية القروية بالهوية الإدارية. ووسط هذا كله، يحاول الفلاح تأمين مصلحته الشخصية، لأنه لا يرى طريقة أوضح أو أسلم لفعل ذلك.
الفردانية والبراغماتية
من خلال هذا التعايش مع مجتمع متشابك، تبرز لدى الإنسان المغربي سمة قوية: البراغماتية، أو بمعنى آخر، السعي لتحقيق المصلحة الشخصية بأكبر قدر من الذكاء والتكيّف.
ويظهر هذا أيضًا عند سكان المدن والمثقفين. فمثلاً، في مكالمة هاتفية بين موظفَيْن، يحاول أحدهما توظيف أحد أقاربه عبر التذكير بقرابتهم، وبانتمائهم لنفس المنطقة، وبالجميل الذي يمكن رده لاحقًا... ثم يختم المكالمة بدعوة للعشاء. هذه المحادثة المألوفة تكشف عن تعايش بين منطق الدولة الحديثة ومنطق العلاقات التقليدية.
الازدواجية الأخلاقية
إنسان المجتمع المركب يتنقل بسهولة بين أنماط مختلفة من السلوك والقيم. قد يعتز بالعصرية، ويدّعي احترام التقاليد، ويقول إنه اشتراكي، دون أن يشعر بأنه يتناقض مع نفسه. وهذا ما يجعل الأخلاق غير واضحة أو غير مستقرة في مجتمع مركب.
إن العيش في هذا السياق يجعل الإنسان لا يتساءل كثيرًا إن كان سلوكه "صحيحًا" من حيث الأخلاق أو القيم، بل يهمه فقط إن كان سينجح في تحقيق هدفه.
الحاجة إلى قطيعة وتجديد أخلاقي
لكن، لبناء مجتمع حديث وعادل، لا يكفي التكيّف مع التناقضات. لا بد من اختيار نمط عيش جديد، وسلوك متماسك ومنسجم مع قيم حديثة.
وقد طرح هذا السؤال من قبل، حتى من طرف صوفيين أمثال ابن عجيبة، الذي دعا إلى "خرق العادات" وتوحيد الشخصية، للخروج من التناقض والازدواجية.
الرسالة الأساسية: إذا أردنا التقدّم، يجب أن نتحلّى بالحزم ونحدث قطيعة مع بعض أنماط التفكير والسلوك القديمة. وهذا ليس بالأمر السهل، لكنه ضروري.